عمان-
القدس العربي: كشف شاعر البادية والقصر الملكي الأردني حبيب الزيودي
النقاب عن مضمون حديث خاص جمعه مع الراحل الكبير محمود درويش حول العلاقة
بين الثقافتين الأردنية والفلسطينية. وإنتقد الزيودي بشدة الفاسدين في الأردن الذين يثيرون الفتنة بين أطراف الشعب الواحد في المملكة الأردنية الهاشمية.
ونحت الزيودي في مطالعة أو جملة إعتراضية متكاملة خص بها القدس العربي
مصطلح (الأردسطيني) فيما كان الملخص الذي نشرته القدس العربي الأربعاء
لإعتراضات الشاعر الأول في البلاط الأردني بعهد الملك عبدلله الثاني قد
أثار ضجة واسعة النطاق.
وفيما يلي جملة الزيودي كاملة نظرا لجرأتها في تشخيص مشكلات الوحدة الوطنية:
من أكثر المواقف التي آلمتني في حياتي, تلك الحرقة, في صوت الشاعر
الفلسطيني الشاب, الذي تعرفت عليه مؤخرا, وسألني: هل تعرف أحدا في وزارة
الداخلية أو الأجهزة الأمنية ؟ قلت له: "كفى الله الشر", وزادت حرقة صوته
انكسارا حين قال : أريد تصريح زواج لأختي, ظننته يمزح أول الأمر, ولكن
انكسار صوته وقلبه لسعني , وانهارت داخلي منظومة من المسلمات, عن الهوية
والثقافة والوطن والإنسان وأنا أذوب ألما لصوته الذي تكسر كإناء الزجاج وهو
يروي لي أوجاع التصريح, الذي يعاني منه والده الشيخ ذهابا وإيابا , من
مخيم غزة في جرش, الى الدوائر الكثيرة في عمان.
الأردن الذي في داخلي, الأردن الذي أعرفه وأعرفه, والذي ترنمته, الأردن
الذي اكتب له, وأشهق في كتابتي, أردن التين, وأردن الجبال, لا يمكن أن يكون
سمفونية الحب, أردن نمر العدوان, الذي صاغ سمفونية الحب والوفاء الخالدة
تحت هذه السماء الصافية, وأردن عرار الذي تجلت العدالة في قلبه أيقونة
خالدة تحت شمس حوران, أردن عوده أبو تايه وعوده القسوس وصايل الشهوان, لا
يمكن أن يكون بهذا الجحود وهذا الضيق وهذا النران !
يقف الأردني المجرد من دولته إلى آخر موال , بجانب الفلسطيني الذي يحتاج
إلى تصريح – ربما – لختان إبنه , أو شراء البطاطا , وكأنهما جوع يأكل جوعا ,
متحدان في الحزن واللوعة والحرمان و الوزن والقافية , في الوقت الذي تذكى
النخبة الفاسدة نارها بينهما , وتؤجج التناقضات تقتسم الغنائم نهارا ,
وتتناعت بالسؤدد وهي تدق كؤوسها آخر الليل ....
في فلم لورنس , ينظر عوده أبو تايه إلى الشمس وهو يحدث لورنس , ويقول :"
هذه الشمس صهرتنا مع هذا الرمل , والشمس التي ذوبت ملامح الأسلاف , هي
ذاتها التي رافقت أبناء هذا المكان , منذ ثلاثة ألاف عام ويزيد , حين موجوا
البتراء ودقوا حجارتها وورودها , وهي منذ ثلاثة ألأف عام تذوب ملامح الناس
وتوحدها , مع الطبيعة , فهي تطلع أيضا على الغزلان والعشب والينابيع ,
وكانت كافية لتذوب ملامح الخليلي بالكركي , والنابلسي بالسلطي , والقدسي
بالعماني , لولا ذلك الأستاذ الجامعي , الذي يدقق قوائم القبول في الجامعة ,
كمن يعشب الأرض من الأعشاب الضارة , يرتدي وجها من وجوهه السبعة , ويحمل
منطق موسوليني وفاشيته , ثم لا يلبث أسبوعا , حتى يخلع وجهه – ذلك الوجه
الذي لم تمسسه , شمس عوده مثلما مست وجوهنا – فيرتدي وجه عمر المختار , وهو
يخطب عن الوحدة الوطنية في نادي الوحدات !
شمس عوده أبو تايه , تتدخل , بيني وبين إبني " بشير " حين يذهب صديقه " سيف
" قائلا " لا تظلك تسأل صاحبي سيف الأسئلة اللي ما إلها طعمه " وأواجه ذات
الإرتباك وأنا أسأل إين صديقي الشاب الجامعي أحمد الخزاعلة المنحدر من
أبوين أحدهما من المفرق والآخر من القدس , فيجيبني الصبي , بنبرة تأكيد : "
طبعا أردني " لكن ما تلج في صوته , ويكتبها , والتقطها من التماعة شمس أبي
تايه , على جبينه , وأنا فلسطيني أيضا يا عم , والحقيقة ان إرتباك أحمد
وسيف وبشير , هوارتباك الوطن كله , فبعد ان فعلت شمس عوده أبو تايه فعلها ,
لم يعد الأردني أردنيا , ولا الفلسطيني فلسطينيا ضمن المنظور التقليدي فقد
ذوبتنا الشمس على ريقتها الساحرة , ليس مع الرمل وحسب وإنما مع الشوارع
والنوافذ والعشب والجامعات والمصاهرات , فتشكل الإنسان " الأردسطيني "
شكلته الثقافة والشمس والحبر والجامعات والشبابيك التي تتشمس بشمس واحدة في
الزرقاء , وترتعش تحت مطر واحد في إربد , وشكلته الاف قصص الحب وألاف
الزيجات والاف الجراح , كيف لي أن أفصل بين علي وجميلة وسالم ومنى وخليل
وفاطمة وزيد وسلمى وحسن وخديجة وخالد وسوسن , وأي وطن هذا الذي سأقسمه
بالمسطرة , والقلم , فأنزع القلب عن القلب واللحم عن اللحم بالمسطرة
والسكين .
أي وطن هذا الذي نفصل فيه الباب عن الباب والشباك عن الشباك والدفتر عن
الدفتر والجدار عن الجدار والحقيبة عن الحقيبة واليد عن اليد والناي عن
الناي , أعرف ان هناك من تخصصوا في الشعوذة وتحضير الأرواح ودعج البخور ,
واحتموا بفزاعة " الوطن البديل " أولئك الذين تروق لهم هذه الدبكة مع
الشيطان , واللعب على الحبال , فالأردني – في حقيقة الأمر , فلسطيني حتى
آخر زيتونة ,و أبعد مئذنة وأعلى سماء , والفلسطيني أردني حتى آخر شهقة ,
وأعلى سارية , وأبعد غزال شارد على طرف الصحراء , و" الأردسطيني " هو أجمل
تجليات الشمس , وهو الذي ينفض التراب ويكبر على أسوار القدس .
هذا الأردسطيني القادم , لم أخترعه أنا , من العدم , فقد أكدته الأدبيات
الأردسطينية كلها , أكده سالم النحاس وغالب هلسا , وقبلهما يعقوب زيادين ,
وبعدهما رمضان الرواشدة في روايته " النهر لن يفصلني عنك , وأكده عند أول
النبع عرار حين قال : " يارب إن بلفور أنفذ وعده كم مسلم يبقى وكم نصراني "
وأكده سميح القاسم بعد تفجيرات عمان حين بكى قائلا :" في القدس يذبحني
الطغاة فما الذي , يارب يذبحني على عمان " ..
ولا أنسى ذلك الحوار العميق في بيت محمود درويش حين غمز أحدهم وقال لدرويش
هل أسمعك الزيودي قصائده المادحة , فاحتد درويش وقال : لا يجوز لأحد أن
يصادر وجدان المثقف الأردني في الإلتفاف حول دولته ونظامه ولم أكن اختلف مع
أبي عمار على شيء قدر اختلافي معه على هيمنة الثقافة الفلسطينية على
الثقافة الأردنية في الأردن فالأردن عمقنا , وهذه الهيمنة لا تخدم إلا
الصهيونية , وإلغاء الأردني يعني إلغاء الفلسطيني والأردني , وخروجهما معا
من التاريخ والجغرافيا .
لم يكن محمود درويش شاعرا وحسب , كان أكثر فاعلية من الجامعة العربية في
تأسيس الوعي العربي وتعميق فاعلية الحبر والثقافة في الهوية العربية بين
المحيط والخليج , وتأسيسا على فهمه للأشياء أقول ان الربيع الأردني لن يبدأ
الا بعد الاستيعاب الكامل للتشكل الإنساني والثقافي والبشري في الأردن ,
فالأردسطيني حين يتجه الى الغرب بغرائزه كلها تتعمق فكرة هذا التمازج
الخلاق , والأرسطيني , ابن الشمس والينابيع والعشب , هو حجر أساس الدولة
الأردنية مثلما هو القلب والبوصلة التي سيأخذنا بغرائز العشب لنكبر حول
أسوار القدس , والعقد الإجتماعي , حين يكون مشوشا تجاه هذا النسيج الذي
أعتبره المكون الأهم للدولة .
إستيعاب ذلك والتأسيس عليه وتجذيره لا يتم بمحاضرة , او محاضرات , واستيعاب
ذلك لا يتم بقصيدة من شاعرة وانما تتاج الدولة لتنتعش وتتجذر , وترتكز إلى
مشروع كبير , وثقافة , وأفكار , مؤصلة , يصوغها ساسة كبار يتمثلون الدولة
والإقليم والمستقبل .
إن جراح الدماغ يختلف عن جراح الباطنية في هامش الخطأ , لأن أي خطأ يقع به
جراح الدماغ حتى لو كان بحجم رأس دبوس , يقتل المريض أو يصيبه بالشلل ,
أما جراح الباطنيى فلا خطر حتى لو استبدل المرارة بالكلية , والوحد الوطنية
التي تؤكد شخصيته " الأردسطيني " تحتاج الى جراحي دماغ , لأن فلسطين حقيقة
الأردن , والأردن حقيقة فلسطين , وهما بغنى عن كل ما يشوب هذه العلاقة من
إختلالات تمس الجوهر وتشل الدماغ .
عندما انتقلت من مدرسة العالوك الإعدادية إلى مدرسة الزرقاء الثانوية ,
أواخر السبيعنات , وجمت عندما قال لنا معلم الإنشاء , أكتبوا عن الربيع ,
فالإنشاء في العالوك كانت حكرا على فلسطين , والشهداء والقدس , فركت جبيني ,
وإحتلت على الأستاذ والإنشاء , وأخذت الربيع الى فلسطين , والشعوب العربية
كلها أخذت الربيع العربي الى فلسطين , وإحتالت على الأنظمة والطغاة , بنفس
المنطق الذي إحتلت به على المعلم والإنشاء , فالمسكوت عنه في ثورات الربيع
العربي , هو أهم من المعلن عنه في الشعارات , ولم تثر الشعوب لتؤكد حكاية
العربي الأزلية مع الخبز والكلأ والماء , وحسب , وإنما ثارت لكرامتها التي
هدرها الطغاة الذين تآمروا على فلسطين , وظلت الحكاية الفلسطينية ثأرا
مبيتا بين الأنظمة والشعوب , فدفعت تلك الأنظمة وهي تتدحرج فاتورة التآمر
على فلسطين , لأن فلسطين لها " حوبة " ولها حرمة في كل أديان الله .
فرض المخلوعون على الفلسطيني , عبر سبعين عاما , أن ينسى الدار والروزنا
وشجرة التين والدمعة والموال , وراءه , ويقف رافع اليدين , على طريقة "
حنظلة ناجي العلي " أمام مقرات الأمن القومي الوحدوي فان رفع الفلسطيني علم
وطنه يوم الأرض أتهم بالتآمر على الأمن والالتفاف على الثورة وإن شهق دون
شهقته العسس , وإن كتب قصيدة حب في الجريدة أخذوا إسم الحبيبة إلى المختبر ,
ليتأكدوا أن إمراة القصيدة أنثى من لجم ودم وليست امرأة سميح القاسم
وتوفيق زياد التي ترمز لفلسطين , وإن تذمر الفلسطيني من ارتفاع سعر "
الملفوف " أتهم بالعمالة والتنسيق مع الأجهزة الشقيقة المعادية .
أقول هذا أنا أعي , أن بوصلة الربيع العربي تؤشر على فلسطين , منذ
انطلاقتها , وإن علينا أن ننسجم مع عمقنا العربي , ونكون السباقين إلى
إنجاز ربيعنا , ما علينا إلا ان نستسلم للحبر أكثر فأكثر , ونسلم جباهنا
لشمس أبي تايه , لتوحد ملامحنا وتذوبنا هذا في المكان الغارق في التاريخ
والمتلهف إلى المستقبل.
|