التسميات

الخميس، يوليو 19، 2012

حكايّة الحاج محمد... رحمة الله عليه



حكايّة ....

احس صاحبنا بدوار يلف رأسه ... فاسرع لتوه الى الطبيب كعادته ... وراح الطبيب يلف جهاز قياس ضغط الدم حول ساعده الايمن وعيناه مثبتتان على المادة الزئبقيّة التي تبحث عن رقم تستقر عليه ...ولما طالت ( بحلقة ) الطبيب في الجهاز ... توجس صاحبنا خيفة وهو يسأل الطبيب ..
هل من شيء ؟
الم تكن تعاني من قبل من ارتفاع في ضغط الدم...
بلى
الوضع الآن اصبح عكسيّاً ... فانت تعاني من انخفاض طفيف ...لا يشغل البال 
صمت الطبيب لحظة ثم سأل صاحبنا 
لا بد ان حادثة ما مرت بك فادت الى الوضع الذي انت فيه
ظروف العمل
غيرها
رجل صلى معنا صلاة الفجر ثم صلاة الظهر ثم لم يصل العصر
لم افهم
انت لا تعرف الحاج محمد ....
ايضا لا افهم
الحاج محمد ....هو واحد من المصلين المداومين في مسجد ضاحيّة الحسيّن ....رجل فاضل ...ورع ...تقيّ ..حين التقيت به في مسجد الضاحيّة ..قال لي بلهفة ..
علمتُ انك من الرملة
هذا صحيح
وانا تنتسب عائلتي الى الرملة التي لم اعش فيها وذكر لي اسم عائلة معروفة من عائلات الرملة ...ولكن ابي حن ذات يوم الى مسقط رأسه في جنين فقرر الرحيل والعودة اليها وفي جنين كانت عائلتنا بمثابة عائلة جديدة تهبط على المدينة ... وكان هؤلاء الذين قدموا من الرملة موضع حفاوة من اهل البلدة لدرجة ان اهل البلدة كانوا يقولون حين يرون واحدا منا ...ذهب الرملاوي ...وعاد الرملاوي 
هكذا عرفت في الحاج محمد واحدا من الرجال الاتقياء الذين لا يقطعون فرضا ورغم انه كان يعاني من ضعف عضلي في قلبه المؤمن ...الا انه كان يغذ الخطى مع جيوش الظلام الهاربة مع الصباح ...لكي يصلي الفجر في المسجد ..وكنت التقي به يوميا وكأننا على موعد ... وموعدنا على الناصيّة المؤدية الى مسجد الضاحية .... كان يمشي بتؤوده ...حتى اذا رآني هتف بي ... لو انك ستسير على مشيتي البطيئة ستتعب ...بامكانك ان تمضي في طريقك لكي تلحق بركعتي تحية للمسجد ... وركعتي السنة . ولم يهن لي ان اتركه وامضي ...كنت امشي بمحاذاته وهو يسألني 
الم تلاحظ معي ان فلانا قد تغيب عن المسجد منذ ايام
علمت انه مريض
من الواجب ان نزوره
ثم يسكت الحاج محمد ولا يلبث ان يعود لتساؤله 
هل تعرف الشيخ ...
اعرفه رجل تقي ياتي كل صباح للمسجد
وهل تعرف انه رجل صاحب اسرة كبيرة وحمله ثقيل ...و...و ..اذا كنت تعرف ذلك فان ذلك يعني ان تساعده على حمله 
يلفني الصمت ..وامشي ...لأفاجأ في اليوم التالي بان الشيخ .....يذكر امامي عرضا عن اريّحيّة الحاج محمد 
كيف
جاء يزورني في البيت ...لم تكن يده فارغة ...حمل الملابس للاولاد وكان يعرف اعمارهم ومقاساتهم ..و..و..
وحين كان يأتي العيد .. كان الحاج محمد يحرص على زيارة بيوت المصلين في المسجد ....وكان اذا لقيني - يهتف بي ضاحكا
الا تعتقد انه من الواجب ان نزور اخواننا في منازلهم 
هذا واجب 
اذا دعنا نذهب الى الذين يسكنون في منازل ارضية فانا كما ترى لا قدرة لي على صعود المنازل ذات الادراج العالية
معنى هذا انك لن تأتي ال بيتي ...
يصمت الحاج محمد ...ويلوج بعينيه ...وكأنه يعتذر سلفا عن تأدية هذه المهمة بالنسبة لزيارة منزلي 
ولهذا كان المصلون يتجمعون للذهاب الى منزل الحاج لكيّ يردوا له الزيارة وكانت اسارير الحاج تنبسط حين يرى هذا الحشد وقد تجمع في منزله 
وكان يردد ....هذه نعمة وما بعدها نعمة
واسأله ضاحكا ماذا تعني 
ان يكون لك اخ لم تلده امك 
الا ترى هذا التباعد الذي يحدث الآن بين الاب وابنه - وبين الاخ واخيه - وبين الجار وجاره ...الا ترى ان الناس ينظرون الى بعضهم البعض وفق مقياس المادة الضيق - لقد خوى الجسد من الروح
ذلك الصباح حضر الحاج محمد كعادته الى المسجد ...صلى الفجر جماعة معنا ... وقبل ان بغادر المسجد كعادته - وقف على باب المسجد ينتظر خروج المصلين - كان ينتظرهم لكي يصافحهم واحدا واحدا ...ثم يتخذ طريقه مع بعضهم في طريقه الى بيته 
ثم جاء الحاج محمد وصلى صلاة الظهر جماعة ...لكن الحاج محمد لم يقف على باب المسجد كعادته ...بل اتخذ طريقه الى البيت ...وكأنه على عجل من امره ...او كأنه ذاهب للتحضير لرحلة يذهب من خلالها ...الى مكان ما ...
وعند صلاة العصر ...لم يحضر الحاج محمد ...فلم يثر ذلك تساؤل الذين يعرفونه ...وكأن بعضهم يقول لعل الحاج محمد انشغل بضيف ما ....جاءه على حين غفلة
لكن الحاج محمد لم يأت لصلاة المغرب ....وحين حضرت الى المسجد في صلاة العشاء ...رحت ابحث عن الحاج محمد- لاعطائه صحيفة الصباح - كالعادة بحثت عنه بين وجوه المصلين ...فلم اجده ... فاثارني ذلك ...لكني لاحظت وجه واحد من اقرباء الحاج محمد....بين صفوف المصلين ...فاقتربت منه ... وفيما انا اهم بالسؤال عن سر تغيب الحاج عن الصلاة - حتى فاجأني هو قائلا
يا سبحان الله
والنعم بالله
صلى الفجر ثم الظهر ثم لم يصل العصر ....لقد مات الحاج محمد وهو يهم بالوضوء للمجيء لصلاة العصر
احسست بالدوار- يلفني ....وظل هذا الدوار يلازمني حتى ووري جثمان الحاج محمد التراب في ظهيرة اليوم التالي
الطبيب ما زال يتفحص جهاز قياس ضغط الدم الملتف حول ساعد صاحبنا ...ثم نزع الجهاز وهو يقول له 
خذ قليلا من الملح وكثيرا من السوائل ...وراح يربت على كتف صاحبنا وهويقول له ..
كثيرون هم الذين فاتتهم صلاة الاوقات جميعها وعزاؤك في صاحبك انه مات ولم يعاني من سكرات الموت وذلك هو حسن الختام


على الهامش :
في مثل هذا اليوم من العام 1988 توفيّ الحاج محمد ...والدي رحمة الله عليه ....الفاتحه على روحه الطاهرة 
وما نشرته اليوم كتبه الصحفيّ وصديق الوالد الاستاذ فوز الدين البسومي ونشره في جريدة الدستور الاردنية العدد 7536 بتاريخ 14/8/1988 وعلى الصفحة 22  

هناك 7 تعليقات:

  1. ربنا يرحم الوالد و يسكنه فسيح جنانه و يصبركم على ما فقدتم

    حسن الخاتمه....الذكر الحسن والسيره العطره...الابناء البارين كلها دلالات على محبه الله للوالد

    ربنا يرزقنا حسن الخاتمه

    ردحذف
  2. الله يرحمه رحمة واسعة

    الموت حق و لكنه صعب ، و لو بعد وقت.

    الله يرحمه يا يوسف.

    كلمات وفية و معبّرة من الصديق

    ردحذف
  3. الله يرحمه ويجعله في أعلى الجنان.
    تفنى الاجساد ويبقى الاثر الطيب والحاج كان انسان بمعنى الكلمه من خلال سيرته وفرحه بأخوانه وتفقده لاحوالهم .
    الله يرحمه أبو عمر و يبارلك بأبنائك ويجعلهم من الذريه الصالحه البارّه بأبويها .

    ردحذف
  4. ان الموت قريب منا يا يوسف فهو كظلنا بمشى معنا فى ذهاينا وغدونا الى ان تاتى ساعتنا فينقض علينا ويختفى الظلال ويعم الظلام باختفاء اجسادنا ويزول الظل بزوالنا
    رحمة الله على الجميع ولنقرأ الفاتحة على ارواحهم الطاهرة

    ردحذف
  5. اللهم واغفر له وارجم و تغمده برحمتك ، ما مات من ترك ذرية صالحة تدعوا له بالخير و لا تنساه من سالح الدعلء تحياتي لك اخي يوسف ولقلمك المبدع

    ردحذف
  6. عليه رحمات الله و غفرانه،فاللهم أغفر له و أسكنه فردوسك الأعلى بجوار نبينا محمد صلى الله عليه و سلم ، هو و كل موتانا و موتى المسلمين..

    ردحذف
  7. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
    اللهم اغفر له وجعل الفردوس مسكنه

    كل عام وأنت بخير أبي العزيز
    وأعاد الله الشهر عليك بكل خير

    ردحذف